عودة لموضوع: عندما تُنتهك حرمة المسجد
قال لي صديقي النهضوي: هل استمعت اليوم لخطبة الجمعة؟ طبعا
هو يعرف أنّي أصلّي الجمعة، ولكنّه يقصد بسؤاله: هل استمعت لخطبة الإمام العائد من
مدينة الضباب والمُتحدّث عنه في مقال البارحة؟ قلت لصديقي: وهل كنتُ مُخيّرا؟ لقد
استمعتُ إليه مُجبرا. فقد كان صوته يأتيني من مكبّرات الصوت وأنا في المنزل على
مسافة تفوق المائة متر. صحيح أنّي لم أتبيّن ولا جملة واحدة، ولكنّه كان مصدر
إزعاج لي بعد رجوعي من جمعة مسجد الحيّ.
تدخّل صديق ثان
مُعقّبا: لقد تبيّنتُ فحوى خطبته وهو كذا وكذا... فكيف تقول ذلك، ونحن الاثنين على
نفس المسافة تقريبا من المسجد؟ قلتُ: وما الفائدة أصلا من بثّ خطبته على الأحياء
المُجاورة للمسجد؟ هل يُمكن لي مثلا، البقاء في المنزل أتابع خطبته عبر مكبّرات
الصوت، حتى إذا ما وقف إمام الجمعة للصلاة وقفتُ أنا للصلاة في منزلي مستقبلا
القبلة بنيّة الاقتداء بالإمام؟ ثمّ لماذا حدث هذا فقط هذه الجمعة، ولماذا لم يقع
بثّ خطب إمام نفس الجامع الأسبوع الفارط والذي قبله، والذي قبله...
قاطعني صديق
نهضويّ ثالث: العمليّة عفوية، قام بها عامل بسيط بالجامع خطأ. أجبته: نفس هذه
العملية وقعت في مثل هذا الوقت من السنة الفارطة. فما لهذا العامل لا يُخطئ إلاّ
وهذا الإمام بالذات على المنبر؟
عاد صديقي الأول
للكلام قائلا: إنّي مُستغرب من تعليقك. كنتُ أظنّك ستقول، كان لهذه الخطبة أن
تُنقل حيّة على التلفزة. أجبته: أنا لم أعترض عن المضمون، وقد قلتُ لك إنّي لم
أتبيّن جملة واحدة. فاعتراضي هو بسبب الإزعاج، فهذا تعدٍّ على حريّتي.
عندها التفت إليّ
"مُستنهض جديد" وكان يجلس إلى الجوار وقال لي: كيف تقول هذا؟ أتجعل
سماعك لخطبة الجمعة مثل أغنية حبوبة؟ أجبته: بهذه الطريقة الأمران سيّان عندي. قال
"المستنهض الجديد": أزال الله الغشاوة عن سمعك. رددتُ عليه: أجمعين،
وعليك أيضا. فعاد "المستنهض الجديد" لجماعته يُحادثها. وانقطع الحديث مع
أصدقائي لفترة، ثمّ عدنا بعدها للتطرّق لمواضيع أخرى.
الأحداث والتي
يعلم أدقّ تفاصيلها واحد من أصدقائي الحاضرين على الأقلّ، وتجاهلها البقيّة بمن
فيهم "المستنهض الجديد" هي:
·
الإمام الزائر هو صديق قديم لي، ومنذ عقود. وقد استقبلته
السنة الفارطة (2011) مُرحّبا بعودته إلى أرض الوطن، بعد عقديْن أو أكثر قضّاها في
المنفى. جلستُ أمامه وأمام إخوانه أكثر من مرّة أنصتُ لدروسهم وقصصهم.
·
الإمام الزائر هذا، صلّيتُ وراءه مأموما، واستمعتُ لخطبه
قبل هجرته، وأذكر على الأقلّ خطبة صلاة عيد
واحد، وكانت في الخلاء خارج العمران.
·
الإمام الزائر كنتُ ألقاه وجمع من الشباب -لفترة لم تكن
بالقصيرة- بعد صلاة العصر من كلّ يوم جمعة في بيت النساء بالمسجد العتيق. حيث كنّا
–نحن الحاضرين- نتناوب على تقديم دروس. كان ذلك قبل بناء الجامع الجديد الذي
تحدّثنا عنه أعلاه. أي كان ذلك قبل سنة 1978. [ وبالمناسبة، فأنا أذكر جيّدا يوم
الشروع في حفر أسس ذلك الجامع. كان ذلك يوم 26 جانفي 1978 بالضبط. وهو تاريخ أذكره جيّدا
لأنّي لم أحضر فعاليات انطلاق الأشغال يومها. فقد كنتُ أيام الثلاثاء والأربعاء
والخميس الأسود 26 جانفي بالعاصمة أتابع من بطحاء محمد علي والشوارع المُجاورة لها
انتفاضة الاتّحاد العام التونسي للشغل ومن ورائه شرائح مختلفة من الشعب.]
·
الإمام الزائر استقبلني في بيته وأكرم ضيافتي بداية
التسعينيات من القرن الماضي عندما كنت في زيارة للمدينة المُنوّرة بالبقاع
المُقدّسة. وأذكر مشاهدتي يومها لشريط فيديو حول جهاد المسلمين في البوسنة والهرسك
ضدّ المعتدين الصرب.
·
الإمام الزائر كان مُتخفّيا في تلك الفترة هناك. ولم يكن
خوفا على نفسي، وإنّما خشية أن تصل إليه يد نظام ابن علي أخفيتُ تلك الزيارة
عن الجميع ولسنوات طويلة.
·
الإمام الزائر التقيتُ به السنة الفارطة مرّات –ثُنائيا
وجماعيّا- كما سبق أن ذكرت. حاولتُ تذكيره ببعض ما سبق. ولكنّني وجدته قد نسيَ تلك
الأحداث جُملة وتفصيلا. رغم أنّه لا يزال يذكر جزئيات أحداث أخرى أبعد زمانا
ومكانا. اعتقدتُ وقتها لسذاجتي أنّ صديقي الإمام الزائر ربما كان يخشى أن أطلب منه
صكّ نضال. [ففي فترة الستينيات، وبعد استقلال تونس عن فرنسا، كان يُمكن للمُناضل
الذي يفتقر إلى إثباتات أن يصطحب شاهديْن حتّى يتمّ إدراجه ضمن قائمة المُناضلين.]
غير أنّي اليوم أكثر تحسّرا، لأنّ شهادة صديقي الإمام الزائر قد حرمتني من مبلغ
مادّي لا بأس به، كنتُ سأظفر به ضمن مشروع الحكومة في تعويض "المُناضلين" زمن ابن
علي.
تحياتي، عثمان الدرويش
04
/ 08 / 2012
مسؤولية وحقوق هذه المادّة لصاحبها